
الصدق في الشعر
يعتبر الصدق عنصراً أساسياً من عناصر الكتابة الشعرية "الإبداع الشعري" إذ الصدق هو الذي يعطي الشعر مبرر الوجود ومشروعية التلقي والتأثير، وأعتقد أن الشعر دون توفر عنصر الصدق يفتقد طبيعته كشعر ويتحول إلى كلام نثري مصفوف خالٍ من العاطفة وخاوٍ من الإحساس وفارغ من الحميمية والوجدان.
والشاعر بفعل الصدق تكبر وتتعاظم معاناته مروراً بالحساسية تجاه حدث أو واقعة معينة متحولة في مختبر الشاعر إلى شيء كبير يستحق الاهتمام، وبالتالي إنتاج على شكل صياغة كتابية قصيدية يعبر عن مولود شعري، هو نتاج التأثر بين إحساس الشاعر الصادق الواقع بظروفه وملابساته، ولولا الصدق لما تولد الإحساس ولما أنتج الشعر ولما تم الإبداع، يمكن تلمس عنصر الصدق في الشعر لدى المتلقي بحالةٍ من المتعة واللذة والنشوة الروحية في تلقي المادة الشعرية سواء كانت صوراً أو إيحاءات أو كلمات شعرية، ليس بالضرورة أن تكون القصيدة مفهومة حتى تكون صادقة، وإنما المهم أن تكون ممتعة، يشعر المتلقي – إزاءها – أنه يتلقى مادة نابعة من قلب وعقل الشاعر الذي تأثر بحدث أو واقعة ما فتولدت لديه قصيدة، وعندما يصل الشاعر إلى ذروة الإحساس المتألم صياغة عندها يصل معه المتلقي إلى القمة في التلقي الإبداعي والجمال الفني.
يقول الدكتور عبد العزيز المقالح: "إن الناس يتفقون على أن عنصر الصدق أهم عنصر يبحث عنه قارئ القصيدة، وقد ترتب على هذا أن أصبح الصدق مقوماً أساسياً من مقومات العمل الفني، والمقصود بالصدق أن يكون الشاعر صادقاً مع نفسه فيما عبر عنه".
هذا ولقد عبر عن ضرورة تلازم الصدق مع الشعر الشاعر الأسباني المعروف لوركا إذا قال: "إن الشعر والصدق لا يموتان مع الزمن، بل إن الصدق توأم الشعر اثنان في واحد، ولا أصالة من دونه، ومن ثم لا بقاء ولا خلود إذا فقد الشاعر هذه الصفة؛ لأنه بهذا الفقد سيتحول إلى دعي مهما أوتي من براعة اللعب اللغوي أو النغمي، ويغدو مثل المهرج المأجور لدغدغة حواس المترفين والأطفال بأسماله المصبوغة المرقعة".
تجدر الإشارة الى أن أول من أثار القضية بشكل حاسم هو ابن طباطبا "ت 322 ه" في كتابه "عيار الشعر" إذ جعل عنصر الصدق أهم عنصر في الشعر وأكبر مزاياه، فالجمال والحق أو الصدق مترادفان عند ابن طباطبا، وهذا يفسر أن لفظة الصدق متفاوتة الدلالة عند ابن طباطبا، وهو يقسم الصدق الى عدة أنواع هي:
- الصدق الفني : أو اخلاص الفنان في التعبير عن التجربة الذاتية أو الأصالة في التعبير، والرجوع إلى الذات في التعبير
- صدق التجربة الإنسانية : وهذا يتجسد في قبول الفهم للحكمة، لصدق القول فيها وما أتت به التجارب منها.
- الصدق التاريخي: وهذا يتمثل عند اقتصاص خبر أو حكاية كلام، وقد أجاز ابن طباطبا للشاعر هنا أن يريد أو ينتقص، إذا اضطر، شرط أن يكونا يسيرين يعينان ويؤيدان لما يروى.
- الصدق الأخلاقي: وهو عبارة عن نقل الحقيقة الأخلاقية على حالها دون نقص أو زيادة، وهو لا مجال فيه للكذب.
- الصدق التصويري أو صدق التشبيه: وأحسن التشبيهات ما إذا عكس لم ينتقض.
ورأي أبن طباطبا يتوافق مع المقولة الشهيرة "أحسن الشعر أصدقه".
كما أنّ الشعر أحد فنون القول، لا يدخل إلى نفوسنا إذا لم يكن صادقًا مستندًا إلى تجربة يهتزّ لها ضمير الإنسان.
وفي هذا القسم الذي وضعه النقاد للصدق في الشعر، تتجلّى قيمة الصّدق ومعيار اعتباره بمدى تعبيره عن الانفعالات الشعورية، ومدى ملامسة الشعر لواقعية الشعور وليس لواقع الشاعر المحيط به؛ فكلما انسجمنا مع القصيدة بصُورِها وتشكلاتها الفنيّة تكونُ هذه القصيدةُ أصدقَ فنيًّا. وربّما يكونُ هذا الفرعُ من الصدقِ أقربَ إلى توصيف ماهيّة الشعر".
إن مناسبة هذا المقال هو ما نتلقاه من قصائد لشعراء لمعت أسماؤهم وبقي شعرهم يبتعد عن عملية التلقي الشعري بكل ما تعنيه كلمة التلقي، ويأتي شاعر ليلقي بعض قصائده في إحدى المراكز أو النوادي الثقافية فنستمع إليه وهو يلقي قصيدة نثر، نحاول بشتى الوسائل (وبالاستناد إلى الرصيد السابق من الذائقة الشعرية) لتلقي ما يقول، لكننا لا نصل إلى فهم جيد ولا حتى فهم ضعيف للقصيدة، وفي الوقت نفسه لا نتمتع بما يقال فهل سيكون جوابهم على سؤالنا: لماذا تقولون ما لا يفهم؟ بل لماذا لا تفهمون ما يقال؟ ولعل غياب الصدق الشعري عن قصائد العديد من شعراء اليوم هو سبب رئيس لانتشار ظاهرة الغموض في الشعر الحديث، وبخاصة قصيدة النثر، ولعل أبرز من عبر عن هذا الموضوع – الصدق في الشعر – الشاعر اللبناني شوقي بزيع عندما قال: "المتتبع لحركة الشعر العربي الحديث في السنوات الأخيرة لا يحتاج إلى كبير جهد لكي يصل إلى الحقيقة التالية :
غياب الحياة أو الفصل شبه التام بين الحياة والشعر، قد لا تكون تلك قاعدة عامة تنطبق على جميع النصوص الإبداعية، ولكن النصوص التي تخرج عن هذه القاعدة قليلة جداً وتشكل استثناء جزئياً إذا ما قيست بالسواد الأعظم من القصائد التي تخلو من أي حرارة أو نبض".